الحراك الإخباري - إبن العنابي...عالم جزائري طاردته فرنسا فتربّع على عرش الفتوى بمصر!
إعلان
إعلان

إبن العنابي...عالم جزائري طاردته فرنسا فتربّع على عرش الفتوى بمصر!

منذ 4 سنوات|الأخبار


لا تزال رحلتنا التاريخية المعرفية مع أعلام الجزائر عبر العصور، متواصلة بفصولها الشيقة، حيث يستوقفنا في هذه الحلقة "ابن العنابي"، وشخصية وطنية جزائرية عاشت عصراً حافلاً بالاضطراب السياسي و عمراً حافلاً بالإنتاج العلمي.

ولد ابن العنابي سنة (1189هجرية/1775ميلادي)، عاصر الثورة الفرنسية و ما نتج عنها من أحداث مست جوانب متعددة من الحضارة الإسلامية، وعاصر في بلاده الجزائر حروباً خارجية خاصة ضد الإنجليز، الأمريكان ، الفرنسيين و الإسبان و غيرهم.

أما اسمه الحقيقي فهو محمد بن محمود بن محمد بن حسين، الذي عرف بابن العنابي تارة و بالعنابي تارة أخرى، من أسرة جزائرية كان لها اعتبارها الديني والفكري، تولى بعض أفرادها مناصب دينية و سياسية و فكرية، فقد تولى جده الأكبر (حسين بن محمد) الإفتاء الحنفي كمنصب لشيخ الإسلام لا يفوقه في الاعتبار سوى الداي أو رئيس الدولة، و اشتهر جده الأدنى (محمد بن حسين) بالعلم و حظي بالتقدير الكبير مما رشح ابن العنابي للوظائف، تساعده في كل ذلك، إمكانياته الفكرية التي فرضت احترامه و تقديره.

ثقافته و وظائفه

ثقف ابن العنابي ثقافة واسعة بمفهوم عصره، سواء منها تلك التي تمت بصلة إلى علوم الدين أو علوم الدنيا، ولعل شيخه الأكبر هو والده، فقد قرأ عليه من القرآن، وتلقى عنه الفقه الحنفي، ومختلِفَ العلوم المتداولة، وقد تلقى عنه أيضاً صحيحَ البخاري قراءة وسماعاً لجميعه، وأجازه.

وقد أدرك إبن العنابي جدّه محمداً، وسمع عليه قطعة من صحيح البخاري، وحصل على إجازته.

ومن أكبر شيوخه مفتي المالكية علي بن عبد القادر بن الأمين، فمما قرأ عليه: بعض صحيح البخاري، وجملة من صحيح مسلم، وتلقى عنه بعض المسلسلات، وأجازه.

وأخذ عن الشيخ حمودة بن محمد المُقَايسي الجزائري، وروى عنه الحديث المسلسل بالأولية.

وأخذ بالجزائر عن الشيخ محمد جكيكن (بمعنى الصغير).

وذكر عبد الحميد بك في تاريخه أن محمد صالح البخاري الرضوي لما اجتاز الإسكندرية أجازه أيضا.

وكان تمكُّن ابن العنابي في العلوم الشرعية أقوى مع تفتح واع على مشاكل العصر و تفاعل معها، و جاءت ثقافته من اهتمامه الشخصي بالدرجة الأولى، ومن تقاليد أسرته بالدرجة الثانية. فتلقى علومه على عدد من كبار الأساتذة يومئذ، كما أمدته تقاليد أسرته بتراث غزير.

أما وظائفه فكان أولها منصب القضاء الحنفي، ولاه الداي أحمد باشا هذه الوظيفة بالإضافة إلى مهمة ثانية وهي الكتابة إلى باي تونس، ويختفي اسم ابن العنابي ولا يعود إلا في عهد عمر باشا الذي كلفه بسفارة للمغرب الأقصى، وبذلك ينضح أن ابن العنابي لم يكن مجرد عالم بالفقه و ما إليه من علوم الدين، بل كان أيضا دبلوماسيا ناجحاً و خبيراً لشؤون الدول.

و بعد هذه الفترة يكتنف حياته بعض الغموض، وقد أخذت وظيفة المفتي تتعرض إلى تقلبات خلال السنة الأولى من الاحتلال الفرنسي للجزائر. و قد أضحى ابن العنابي موضع شبهة من سلطات الاحتلال خاصة عندما أجبره كلوزيل على تسليم بعض المساجد لجعلها مستشفيات للجيش، و قد اتسمت لهجة ابن العنابي بالنقد للسلطات الفرنسية على خرقها للاتفاق الموقع بين الداي حسين باشا و الكونت دي بورمون مما جعل كلوزيل يضيق به ذرعاً، فاعتزم على وضع حد له، فتم إلقاء القبض عليه من طرف رجال الدرك و قادوه إلى السجن، كما أهينت أسرته بدعوى تدبير مؤامرة ضد الفرنسيين، وإعادة الحكم الإسلامي للجزائر ثم قرر كلوزيل نفيه من الجزائر في مهلة ضيقة، ولم يحصل له حمدان خوجة على مهلة عشرين يوما من أجل بيع أملاكه و تصفية ديونه إلا بصعوبة كبيرة، ثم ترك وطنه لآخر مرة قبل نهاية 1831 ميلادية و انتهى إلى مصر، فأقام بالإسكندرية حيث ولاه محمد علي باشا وظيفة الفتوى الحنفية بهذه المدينة.

 تدريسه و تلاميذه

وقد التف حول ابن العنابي تلاميذ و علماء من الأزهر بعد أن تصدر لتدريس الحديث و الفقه، فأجاز الكثيرين من تلاميذه في مصر و تونس و غيرهما، كما كانت له مراسلات كثيرة لكثرة مراسليه الذين يطلبون الرأي أو الفتوى أو الإجازة، أو غيرها من المراسلات الأدبية، كما اتسمت شخصيته بالروح الدينية والفكر الاقتصادي، والسياسي، فكان له دوره الديني و السياسي، لعب دوره الأول و هو يباشر وظيفة الإفتاء و يتصدر للتدريس و يمنح الإجازات لتلاميذه و المعجبين بعلمه، أما الدور السياسي فيتمثل في صلته بدايات الجزائر و في موقفه من الاحتلال الفرنسي لبلاده، وهو الاحتلال الذي نفاه باعتباره عالماً منفياً لأسباب سياسية.

ثناء العلماء

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "لقيت بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي الأثري، فوجدته حسن العقيدة، طويل الباع في العلوم الشرعية".

وجاء النص عنه أطول في إجازة لعبد العزيز بن مرشد، وفيها: "وجدته حسن العقيدة، لين العريكة، متواضعاً، طويل الباع في العلوم الشرعية".

وقال عبد الحميد بك في تاريخه "وكان رحمه الله تعالى إماماً فاضلاً، عارفاً بالعبادات والأحكام في المذاهب الأربعة على اختلافها، واختلاف أقوالها، والراجح منها، والضعيف فيها، وعالماً في باقي المنقول والمعقول، والسياسات العمومية والخصوصية الخارجية والداخلية، وله إنشاءات وشعر".

ووصفه تلميذه إبراهيم السقا بـ"كشاف الحقائق، ومنبع الرقائق والدقائق، شيخنا المحفوف باللطف الخفي، محمد بن محمود بن محمد الجزائري الأثري".

وقال محمد بيرم الرابع "إلى حضرة وحيد زمانه، العالم الكبير، والرئيس النحرير، والمقدّم في الفتيا الحنفية بالمشرق بلا نكير، شيخ الإسلام أبي عبد الله سيدي محمد بن محمود العنابي، المفتي الآن بثغر الإسكندرية".

وقال عنه أيضا "العَلَم النحرير، رضيع لبان العلم والتحرير، مجمع بَحري المعقول والمنقول، كشاف مخدَّرات الفروع والأصول.. العَلَم الأوحد، والطود المُفْرَد".

وقال عنه إبراهيم بن صالح بن عيسى في عقد الدرر "الشيخ العالم العلامة مفتي الجزائر".

وقال عنه عبد الستار الدهلوي "العالم الفاضل، صاحب التآليف النافعة"

 وفاته وآثاره

توفي ابن العنابي رحمه الله تعالى في ربيع الآخِر سنة 1267، سنة 1851 ميلادية بمصر، عن ثمان وسبعين سنة، وأرَّخ وفاته الشاعر محمد عاقل بقوله "اليوم رمس مفتي الإسكندرية".

وذُكر أن أسرة المترجم ما تزال حتى اليوم بالإسكندرية، وتُعرف بأسرة المفتي الجزائري.

وقد ترك العديد من المراسلات في العديد من المواضيع خاصة الدينية منها، وأشعارا، و كتبا، أهمها "السعي المحمود في نظام الجنود"، الذي قال عنه ابن العنابي "أن الأوروبيين نظموا جنودهم ليضروا بالإسلام و أهله، و أمام هذا الخطر الداهم، أصبح من المحتم على المسلمين أن يتعلموا منهم ما اخترعوه من صنائع و نظم"، و هذا الكتاب مكون من أربعة عشر فصل، يتعلق بنظم الجيش و الأخذ بأسباب الحضارة، وقد طبعته دار الوعي الجزائرية.

إضافة إلى ذلك نجد عديد المؤلفات الأخرى، منها، "صيانة الرياسة ببيان القضاء والسياسة"، "شرح الدر المختار في الفقه الحنفي"، "العقد الفريد في التجويد"، "التوفيق والتسديد في شرح الفريد في التجويد"، "إمعان البيان في بيان أخذ الأجرة على القرآن"، "خاتمة في التوحيد"، "المقتطف من الحديث"، "المنتقى من الصِّحاح في الحديث"، "المنتخب من فوائد المنتقي لزوائد البيهقي للبوصيري"، "التحقيقات الإعجازية بشرح نظم العلاقات المَجازية، في البلاغة والأدب"، "رسائل ثماني عشرة في وقف العقار"، "رسالة في أداء زكاة الفطر"، "رسالة خاصة بالمرأة".

وله أيضاً فتاوى كثيرة منثورة، وإجازات متعددة، ومراسلات مع العلماء والساسة، وله أيضاً تقاريظ وتعاليق على بعض الكتب.

 ق/و

تاريخ Mar 30, 2021